ماجدة محمود
كل عام وحضراتكم بخير، رمضان هل هلاله ويظأت ايامهالعظام، شهر نسعد به ويسعدنا، ننتظره من العام للعام، ومع لياليه يحلو لنا قراءة القرآن، وتدبر معانيه، والإتناس بقصصه، التي تروي وتعطي أعظم الأمثلة لنساء ورجال تحملوا الصعاب وساروا على الأشواك إيمانًا واحتسابًا.
على مدار الشهر سنغوص في أعماق شخصيات نسائية ذكرها المولى عز وجل في كتابه العزيز، وكن صاحبات مواقف نبيلة مع أزواجهن، نساء صابرات، كريمات كن خير رفيق وقت الشدة والضيق.
من بين هؤلاء نتوقف عند السيرة العطرة لزوجة النبى “أيوب”، الذى ضرب أروع الأمثلة فى الصبر على الابتلاء، وموقف زوجتة “ليا”، والتي كانت ذات جمال باهر، وحسب ونسب فهى ابنة “ميسا” ابن يوسف ابن يعقوب عليهم السلام، كانت تحيا حياة رغدة، تمتلك كل شيء، الخدم، والحشم، والبيت الكبير، والمال الوفير، والأبناء من البنات والبنين.
عاشت مع نبي الله أيوب لمدة 70 عامًا في سعادة وهناء، حيث كان أيوب عليه السلام، وهو فى سن الـ25، يمتلك الأراضي، والأموال، والأولاد، والصحة، وأراد المولى عز وجل أن يختبره في كل هؤلاء لحكمة لا يعلمها إلا هو، فكان الابتلاء فى ماله، ثم أولاده، فبدنه.
ولهذا الابتلاء قصة لها أكثر من تفسير من بينها أنه روى عن ابن أبي حاتم في تفسيره عن ابن عباس، أن الشيطان استشاط غيظًا وغيرة من نبى الله أيوب لما يمتاز به من صبر، وشكر دائم لله عز وجل في السراء والضراء، فقال الشيطان: “يا رب سلطني على أيوب”، فقال الله تعالى: “قد سلطتك على ماله وولده، ولم أسلطك على جسده”، فنزل وجميع جنوده فقال لهم: “قد سلطت على أيوب فأروني سلطانكم”، فصاروا نيرانًا ثم صاروا ماءً، فبينما هم بالمشرق إذ هم بالمغرب، وبينما هم بالمغرب إذ هم بالمشرق، فأرسل طائفة منهم إلى زرعه وطائفة إلى إبله، وطائفة إلى بقره، وطائفة إلى غنمه، وقال “إنه لا يعتصم منكم إلا بالصبر”، فأتوه بالمصائب بعضها على بعض، ولم يتبق له إلا زوجته “ليا”، حيث ابتلي فى جسده بأمراض لم تكن تعرف وقتها مثل الجدري، وضاق به جيرانه فانقطعوا عنه وأخرجوه من البلد، لكنه وزوجته كانا صابرين حامدين وشاكرين.
الزوجة التي كانت تنعم بكل سُبل الحياة الرغدة صارت تعمل لدى الناس بالأجر لتوفر لزوجها الطعام والشراب، ولما أغلقت فى وجهها أبواب العمل خوفًا من عدوى مرض زوجها، اضطرت لبيع ضفائرها واحدة تلو الأخرى، ولما ألح النبي أيوب فى معرفة مصدر أموال الطعام والشراب، وهو يعلم أن الناس انفضوا من حولهما، ويرفضون التعامل مع زوجته خوفًا من العدوى، رفعت غطاء رأسها ليتأكد أنها لم تفعل ما يُسئ إليه، وهنا غضب أيوب غضبًا شديدًا لتفريط زوجته فى شعرها، وتزامن هذا الموقف مع زيارة صديقاه اللذان كانا يداوما على زيارته، وقد سمع أحداهما يقول للآخر بعد أن رأى تدهور حالة أيوب: “لو كان الله علم من أيوب خيرًا ما ابتلاه بهذا”، وهنا شكا أيوب لربه حاله ودعا الدعاء المعروف: “ربي أني مسني الضر، وأنت أرحم الراحمين”.
ولما عادت “ليا” زوجة نبى الله من البلد، وذهبت لتحمل زوجها لمكان نومه، فإذا بها تراه فى أحسن صورة، حتى أنها لم تعرفه فى البداية، وسألته: “يا عبد الله هل رأيت نبى الله هذا المُبتلى؟”، ولما تفحصت وجهه تأكدت أنه زوجها يُجيبها: “أنا هو”، ويُخبرها أن الله تعالى رد عليه صحته، ثم ماله، وجاهه، وأولاده.
هنا نتوقف عند عظمة ووفاء هذه الزوجة التى عانت وتحملت ما لا يتحمله بشر وفاءً لزوجها وبرًا به، لم تتذمر، لم تشكو، لم تتخل ولم تبخل عليه فباعت من أجله أغلى ما تملك “ضفائرها” زينتها، صبرت على الابتلاء في الأبناء، وهو من أقوى الابتلاءات، ضعف جسدها من كثرة العمل، وهي التى كانت تحيا حياة الملكات تؤمر فتطاع، لم تسأل لماذا ابتليت دون الآخرين، ولم تسأل إلى متى الابتلاء، بل كانت شاكرة، حامدة، ساجدة، صابرة، ومُحتسبة، فرد الله إليها صحتها، وجمالها، ومالها، وأولادها، وشفى زوجها.
في قصة النبي أيوب وزوجته، درس وعظة في الصبر على البلاء والابتلاء، وها هو المولى عز وجل يقول: “فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر وآتيناه أهله ومثلهم معهم، رحمة من عندنا وذكرى للعابدين”.