كتب: أحمد عبد الله
يوم بعد يوم، يثبت رجال الشرطة المصرية الأبطال، أنهم سيظلون على عهدهم الدائم مع الشعب المصري، يواصلون الليل بالنهار، ويبذلون الغالي والنفيس، من أجل تحقيق أمن وسلامة المواطن المصري وحفظ مقدرات أرض الكنانة من جانب، والمشاركة المجتمعية لرفع أعباء الحياة عن كاهل المواطنين من جانب آخر، وهو ما أدى إلى توطيد أواصر الثقة بين رجال الشرطة والمواطنين.
ثلاثة أيام فقط تفصلنا عن الاحتفال بالذكرى الثانية والسبعين لعيد الشرطة، تلك الذكرى التي سطر فيها رجال الشرطة الأبطال، ملحمة تاريخية عظيمة ضد قوات الاحتلال في الإسماعيلية عام 1952، وحفروا أسماءهم ومجدهم بأحرف من نور في سجلات البطولة المصرية.
ويواصل رجال الشرطة بطولاتهم يوما بعد يوم من أجل الوفاء بالعهد الذي قطعوه على أنفسهم منذ التحاقهم بمصنع الرجال أكاديمية الشرطة، بالذود عن الجبهة الداخلية للوطن، والوقوف بالمرصاد لكل من تسول له نفسه المساس بأمن وسلامة المواطن المصري العظيم، في ظل منظومة أمنية احترافية أرساها وزير الداخلية اللواء محمود توفيق داخل كافة قطاعات الوزارة، منذ توليه مسئوليتها في 14 يونيو 2018.
ونجحت وزارة الداخلية خلال عام 2023، في خفض معدلات الجريمة بشتى صورها، مقارنة بالعام الماضي؛ وذلك في ظل التطوير المستمر في كافة القطاعات الشرطية، والذي شمل تطوير قدرات العنصر البشري من خلال الاعتماد على أحدث خطط ونظم التدريب من جانب، وزيادة الاعتماد على التطور التكنولوجي في كافة مناحي العمل الأمني من جانب آخر، وهو ما أرسى استراتيجية جديدة داخل منظومة العمل الأمني، تقوم على التحول من سياسة رد الفعل إلى المبادأة الحاسمة، والوقاية من الجريمة، وهو ما كان له إثر إيجابي على أمن واستقرار المواطنين في شتى أنحاء البلاد.
ولم يهتم وزير الداخلية اللواء محمود توفيق بمحاربة الجريمة بشتى صورها فقط، بل واصل اهتمامه بتحديث وتطوير الخدمات الجماهيرية التي تقدمها الوزارة للمواطنين، لمواكبة عصر الرقمنة والتحول التكنولوجي الذي تنتهجه مصر في سبيل بناء الجمهورية الجديدة، حيث حدثت الوزارة خدماتها الإلكترونية عبر صفحتها على شبكة المعلومات الدولية (الإنترنت)، وعلى بوابة الحكومة الرسمية، وطورت خدمات الأحوال المدنية لتسهيل حصول المواطنين على أوراقهم الثبوتية، ومنها خدمات السجل المدني الذكي، الذي يتيح الحصول على مختلف الوثائق الرسمية بطريقة مميكنة كليا، فضلا عن التوسع في إنشاء مكاتب نموذجية للأحوال المدنية بعدد من المراكز التجارية الكبرى، تتوفر بها خدمة ترجمة تلك الوثائق إلى 17 لغة أجنبية، بالإضافة إلى توفير سيارات حديثة تعمل بالطاقة الشمسية، كمقرات متنقلة لخدماتها بمواقع المشروعات القومية العملاقة بكافة المحافظات، وربط أجهزة (التابلت) بمراكز الإصدار، بما يتيح الانتقال لتقديم الخدمة بأماكن إقامة كبار السن وذوي القدرات الخاصة.
وفي إطار توجيهات الرئيس عبد الفتاح السيسي لكافة أجهزة الدولة، باتخاذ كافة الإجراءات اللازمة للتخفيف عن كاهل المواطنين، وتوفير السلع الأساسية والغذائية بأسعار مناسبة، أطلقت وزارة الداخلية العام الماضي، المرحلتين الـ 23 والـ 24 لمبادرة “كلنا واحد”، والتي تستهدف توفير السلع الأساسية والاستراتيجية ذات الجودة العالية للمواطنين، بأسعار منخفضة عن مثيلاتها في الأسواق بنسبة تصل إلى 60 %، وذلك بالتعاون مع عدد من السلاسل التجارية الكبرى، حيث تم التنسيق مع كبرى الشركات والسلاسل التجارية، للمشاركة في المبادرة لتوفير تلك السلع من خلال 1513 منفذا، و6 معارض رئيسية، و37 معرضا فرعيا، وذلك بالتنسيق مع الإدارة العامة لشرطة التموين والموردين من أصحاب الشركات التجارية.
كما وجهت وزارة الداخلية عددا من القوافل الطبية والإنسانية إلى مختلف محافظات الجمهورية؛ لتقديم هدايا عينية (بطاطين – مواد غذائية) للمواطنين بالمناطق الأولى بالرعاية، في إطار مبادرة (حياة كريمة) تحت رعاية الرئيس عبد الفتاح السيسي، فضلا عن مواصلة منظومة (أمان) جهودها في المساهمة في تخفيف الأعباء عن كاهل الأسر المصرية، من خلال إعداد عبوات تحتوى على سلع متنوعة وطرحها للمواطنين بتخفيضات تصل إلى 50%، عبر 1026 منفذا ثابتا ومتحركا، وقوافل السيارات الخاصة بالمنظومة.
ويحتفل المصريون في 25 يناير من كل عام بذكرى عيد الشرطة، ذلك اليوم الذي جسد فيه رجال الشرطة عام 1952، بطولة لم ولن ينساها التاريخ أبد الدهر، بعد أن استشهد في هذا اليوم نحو 50 بطلا من الشرطة المصرية، وأصيب 80 آخرون، في سبيل أداء واجبهم المقدس في الحفاظ على أمن وآمان المواطنين، فكانوا مثالا وقدوة لزملائهم على مر الزمان في التضحية والتفاني في العمل، حيث كانت منطقة القناة تحت سيطرة القوات البريطانية بمقتضى اتفاقية 1936، والتي كان بمقتضاها أن تنسحب القوات البريطانية إلى محافظات القناة فقط، دون أي شبر في القطر المصري، فلجأ المصريون إلى تنفيذ هجمات فدائية ضد القوات البريطانية داخل منطقة القناة، وكبدتها خسائر بشرية ومادية ومعنوية فادحة، وذلك كان يتم بالتنسيق مع أجهزة الدولة في ذلك الوقت.
وكان الفدائيون ينسقون مع رجال الشرطة لشن هجمات فعالة وقاسمة ضد القوات البريطانية، وهو ما فطن له البريطانيون، حيث قاموا بترحيل المصريين الذين كانوا يسكنون الحي البلدي في الإسماعيلية، بينما كانوا هم يسكنون الحي الأفرنجي؛ وذلك للحد من عملياتهم البطولية ضد قواتهم، ولكن ذلك لم يؤثر على الفدائيين، بل زادت هجماتهم شراسة، وذلك بالتنسيق مع قوات الشرطة المصرية.
وعندما فطنت القوات البريطانية بأن رجال الشرطة يساعدون الفدائيين، قررت خروج كافة أفراد الشرطة المصرية من مدن القناة، على أن يكون ذلك فجر يوم 25 يناير 1952، وفوجئ رجال الشرطة بعد وصولهم إلى مقر عملهم في مبنى محافظة الإسماعيلية بقوات الاحتلال البريطاني تطالب اليوزباشي مصطفى رفعت قائد بلوكات النظام المتواجدة بمبنى محافظة الإسماعيلية، بإخلاء مبنى المحافظة خلال 5 دقائق، وترك أسلحتهم بداخل المبنى، وهددوهم بمهاجمة المبنى في حالة عدم استجابتهم للتعليمات.
وتوهم الاحتلال البريطاني أن رجال الشرطة سيخافون على حياتهم، ويتركون سلاحهم ويهربون، حفاظا على أرواحهم، ولكنهم فوجئوا ببطولة وملحمة سطرت في تاريخ مصر المشرف بأحرف من نور، حيث رفض اليوزباشي مصطفى رفعت الانسحاب وترك مبنى المحافظة، وعقب استئذانه بالمقاومة من اللواء أحمد رائف قائد بلوكات النظام في الإسماعيلية، والذي استأذن بدوره من فؤاد باشا سراج الدين وزير الداخلية آنذاك.. خرج لقائد قوات الاحتلال البريطاني (إكس هام) وقال له: “إذا لم تأخذ قواتك من حول المبنى.. سأبدأ أنا الضرب، لأن هذه أرضي، وأنت الذي يجب أن ترحل منها ليس أنا.. وإذا أردتم المبنى.. فلن تدخلوه إلا ونحن جثث”، ثم تركه ودخل مبنى المحافظة، وتحدث إلى جنوده وزميله اليوزباشى عبد المسيح، وقال لهم ما دار بينه وبين (إكس هام)، فما كان منهم إلا وأيدوا قراره بعدم إخلاء المبنى، وقرروا مواجهة قوات الاحتلال، على الرغم من عدم التكافؤ الواضح في التسليح؛ حيث كانت قوات الاحتلال تحاصر المبنى بالدبابات وأسلحة متطورة شملت بنادق ورشاشات وقنابل، فيما لا يملك رجال الشرطة سوى بنادق قديمة نوعا ما.
وبدأت المعركة من خلال قيام القوات البريطانية بإطلاق قذيفة دبابة كنوع من التخويف لقوات الشرطة، أدت إلى تدمير غرفة الاتصال “السويتش” بالمبنى، وأسفرت عن استشهاد عامل التليفون، لتبدأ بعدها المعركة بقوة، والتي شهدت في بدايتها إصابة العشرات من رجال الشرطة واستشهاد آخرين، فخرج اليوزباشى مصطفى رفعت قائد قوة بلوكات النظام المتواجدة داخل مبنى المحافظة إلى ضابط الاحتلال البريطاني، في مشهد يعكس مدى جسارة وشجاعة رجل الشرطة المصري، فتوقفت الاشتباكات ظنا من قوات الاحتلال بأن رجال الشرطة سيستسلمون، ولكنهم فوجئوا بأن اليوزباشى مصطفى رفعت يطلب سيارات الإسعاف لعلاج المصابين وإخلائهم قبل استكمال المعركة، وفقا لتقاليد الحرب الشريفة التي اعتاد عليها المصريون، ولكن قوة الاحتلال رفضت واشترطت خروج الجميع أولا والاستسلام، وهو ما رفضه اليوزباشي مصطفى رفعت، وعاد إلى جنوده لاستكمال معركة الشرف والكرامة، والتي لم يغب عنها أيضا أهالي الإسماعيلية الشرفاء، حيث كانوا يتسللون إلى مبنى المحافظة، لتوفير الغذاء والذخيرة والسلاح لقوات الشرطة، رغم حصار دبابات الاحتلال للمبنى.
ومع استمرار الاشتباكات بشراسة، بدأت الذخيرة في النفاد من رجال الشرطة المصرية، ولكنهم رفضوا أيضا مجرد فكرة الاستسلام، فقرأوا جميعا فاتحة كتاب الله والشهادتين، بما فيهم الضابط المسيحي اليوزباشي عبد المسيح، في لحظة تؤكد مدى تماسك ووحدة شعب مصر العظيم، وقرروا القتال حتى آخر طلقة، وقرر اليوزباشي مصطفى رفعت الخروج من المبنى لقتل قائد قوات الاحتلال (إكس هام)، أملا منه في أن يؤدي ذلك إلى فك الحصار وإنقاذ زملائه.. وبالفعل عندما خرج، توقف الضرب كالعادة، ولكنه فوجئ بضابط آخر أعلى رتبة من (إكس هام)، وبمجرد أن رأى هذا الضابط اليوزباشي مصطفى رفعت، أدى له التحية العسكرية، فما كان من اليوزباشي رفعت إلا أن يبادله التحية وفقا للتقاليد العسكرية، وتبين بعد ذلك أن ذلك الضابط هو الجنرال (ماتيوس) قائد قوات الاحتلال البريطاني في منطقة القناة بالكامل.
وتحدث الجنرال (ماتيوس) إلى اليوزباشي مصطفى رفعت، وقال له بأنهم فعلوا ما عليهم بل أكثر، وأنهم وقفوا ودافعوا عن مبنى المحافظة ببطولة لم تحدث من قبل، وأنهم أظهروا مهارة غير عادية باستخدامهم البنادق الخفيفة التي معهم ووقوفهم بها أمام دبابات وأسلحة الجيش البريطاني المتعددة، وأنه لا مفر من وقف المعركة بشرف، فوافق اليوزباشي مصطفى رفعت على ذلك، مع الموافقة على شروطه، وهي أن يتم نقل المصابين وإسعافهم بشكل فوري، وأن الجنود التي ستخرج من المبنى، لن ترفع يديها على رأسها، وتخرج بشكل عسكري يليق بهم.. فوافق الجنرال (ماتيوس) على تلك الشروط، وتم خروج قوات الشرطة بشكل يليق بهم وهم في طابور منظم.
لقد أسفرت تلك الملحمة التاريخية للشرطة المصرية عن استشهاد نحو 50 من رجال الشرطة، وإصابة 80 آخرين، فاستحقت أن تكون ليست يوما فقط أو عيدا للشرطة المصرية، ولكنها أصبحت عيدا قوميا لمحافظة الإسماعيلية وللشعب المصري كله.
بطولات رجال الشرطة التي نراها اليوم، تعد امتدادا طبيعيا لتاريخ طويل من البطولات والتضحية، به العديد من المحطات التي تؤكد دوما وطنية هذا الجهاز، وحرص أبنائه على التضحية بالغالي والنفيس لحفظ أمن المواطن وسلامته، فتحية إلى أبطال يؤدون واجبهم بكل أمانة وإخلاص، ويضحون بالغالي والنفيس من أجل رفعة هذا الوطن، وتحقيق أمن وسلامة مواطنيه.. أبطال كانوا وما زالوا وسيظلون دائما على عهدهم بالتضحية بأرواحهم من أجل حفظ مقدرات أرض الكنانة.