عبد الحليم قنديل
حدث اغتيال “شيرين أبوعاقلة” لم يكن الأول من نوعه ، عشرات من الصحفيين الفلسطينيين وغيرالفلسطينيين قتلتهم همجية قوات الاحتلال الإسرائيلى ، تماما كما لم يكن العدوان الوحشى على جنازة تشييع الشهيدة “شيرين” هو الأخير ، فقد لحقه اعتداء مماثل على جنازة الشهيد المقدسى “وليد الشريف” ، والحبل لا يزال على الجرار الدموى .
وربما ما جعل رحيل شيرين الدامى أيقونة فلسطينية ملهمة ، أن مقتلها العمدى بطلقات قناص إسرائيلى محترف ، وبرصاصة دخلت من تحت الأذن لتحطيم الجمجمة ، وبصورة تخطت عن قصد سترتها الواقية وخوذة الرأس ، ومع المعرفة الكاملة بهويتها الصحفية المشهرة بوضوح على صدرها ، إضافة إلى شهرتها كمراسلة تليفزيونية ارتبط عملها بوقائع الكفاح الفلسطينى اليومى ، وكل ذلك جعل من “شيرين” هدفا مفضلا للإعدام ، واستشهادها على الهواء ، كسب لاسمها خلودا فلسطينيا وذيوعا عالميا ، قد يكافئ معنى الصحوة الفلسطينية الجديدة ، التى يبدى فيها الشعب الفلسطينى حيوية متدفقة ، ويعيد النجوم إلى مداراتها الأصلية ، ويوحد الساحات الفلسطينية على جبهة بسالة موحدة ، لا تستثنى الحضور الفلسطينى الباهر فى الأراضى المحتلة زمن نكبة 1948 ، ولا تبقى الحواجز الوهمية بينه وبين شعب الأراضى المحتلة فى عدوان 1967 ، وتجعل من “القدس” عاصمة ورأسا قائدة لكفاح الشعب الفلسطينى ، وهو تحول تراكمت مقدماته منذ أوقات الإنتفاضتين الفلسطينيتين الأحدث ، وإلى أن بدا ظاهرا فى تمامه قبل عام مضى ، حين نهضت القدس إلى قيامتها العفية ، وأشعلت من روحها حرب “سيف القدس” ، التى خاضتها مقاومة غزة باسم القدس قبل وبعد أى شئ آخر ، فقد خاضت “غزة” قبلها ثلاثة حروب ، لم تستطع فيها همجية جيش الاحتلال أن تحرز نصرا ، برغم التفاوت الهائل فى موازين القوة المسلحة لصالح العدو الإسرائيلى
، لكن حرب “سيف القدس” ـ مايو 2021 ـ كانت ملحمة من نوع مختلف ، وصاغت معادلة صدام جديدة ، كانت فلسطين التاريخية بكاملها مسرحها ، وتوحد نداء الدم والغضب الفلسطينى ، من القدس إلى غزة إلى “اللد” و”حيفا” و”النقب” ومدن الضفة الغربية ، وإلى سجون ما يقارب خمسة آلاف أسير فلسطينى ، وتوالت مواكب الفداء بعد رشقات الصواريخ ، وعادت الهوية الفلسطينية جامعة الوجع ، وبدت “جنين” بإلهام القدس عاصمة للمقاومة الشعبية الجديدة ، بموقعها الجغرافى المتداخل مع مروج وتجمعات الداخل المحتل منذ 1948 ، وبميراثها المقاوم الصابر المتحدى على مدى التاريخ ، فبالقرب منها جرت معركة “عين جالوت” ، التى قهرت الزحف المغولى وكتبت نهايته ، وفى الانتفاضة الفلسطينية الثانية
كانت معركة اقتحام الاحتلال لمدينة “جنين” وجوارها ومخيمها ، أعنف الصدامات المسلحة وأشدها إنهاكا لجيش “شارون” ، ومنها جاء أغلب الأسرى الستة الذين صنعوا ملحمة الهروب العبقرى من سجن “جلبوع” الأكثر تحصينا ، ومنها جاء أغلب أبطال العمليات الفدائية الأربع الأخيرة فى قلب حواضر العدو ، وعلى مشارفها ، كان استشهاد “شيرين أبو عاقلة” بنت القدس ، التى تحولت جنازاتها فى مدن الضفة إلى مشاهد جليلة حاشدة مهيبة ، باتت عنوانا على صحوة وقيامة الشعب الفلسطينى ، التى تطورت على نحو تلقائى فريد ، يصنع إلهامه بالقدوة والجرأة والشجاعة ، والثقة فى المقدرة على اكتساب الحق الفلسطينى بالجملة ، وهو ما صنع المعنى الجامع لجنازة “شيرين” فى قلب القدس ، التى تسابقت فيها أجراس الكنائس مع تكبيرات المساجد ، واجتمعت فيها الآلاف المؤلفة من كافة أجيال المقدسيين الفلسطينيين ، وبدت كأقوى رد سياسى على قرار واشنطن باعتبار القدس عاصمة موحدة لكيان الاحتلال
بينما بدت “القدس” يوم وداع “شيرين” على طبيعتها الأصلية النقية ، وكعاصمة أزلية أبدية للفلسطينيين دون سواهم ، وهو ما يفسر السلوك المنفلت الجنونى المصدوم لقوات الشرطة والاحتلال الإسرائيلى ، ودوسهم الفظ الهمجى على أبسط قيم وأعراف وداع الموتى فى ثقافات الدنيا كلها ، فقد بدا وداع “شيرين” كتشييع لزعيمة سياسية وطنية ، وبحضور كثيف لم يتوافر مثله لأحد فلسطينى قبلها ، ربما باستثناء جنازة الزعيم الفلسطينى الأشهر ياسر عرفات ، وإلى حد ما جنازة الراحل “فيصل الحسينى” فى القدس ذاتها لكن جنازة “شيرين” بدت أبلغ تعبيرا ، فقد جاءت فى زمن الخذلان العربى والعالمى الرسمى لقضية فلسطين وقضية القدس ، وفى وقت تردى أوضاع القيادات الفلسطينية نفسها ، وفى ذروة التطبيع الفاجر والاستخذاء الخادم لكيان الاحتلال الإسرائيلى ، وفى الليلة الظلماء بزغ بدر وداع “شيرين” الصحفية المسيحية ، التى جمعت شعبا أغلبه من المسلمين .
كان كيان الاحتلال يظن أنه بستطيع المراوغة ، والسعى للخداع فى قضية استشهاد “شيرين” ، سواء بادعاء إجراء تحقيقات صورية ، أو بالتلاعب على أوتار طائفية مريضة ، تخدم العدوعلى نحو مباشر ، كادعاء عدم جواز الترحم وطلب المغفرة الإلهية لروح “شيرين” ، وبدعوى أنها مسيحية ، وأن صفة “الشهيد” مقصورة على المسلمين الأصوليين ، مع وضوح تعارض الإدعاء مع روح ومبادئ الإسلام الأصفى ، ولم يكن ذلك عبثا ولا مصادفة جنوح بالرأى ، بل ضلال تفشى وتقيح فى حياتنا العربية الراهنة ، لا يقيم وزنا للأوطان وحرمتها ، ويعتبرها مجرد “حفنات من تراب عفن” ، ولا يلقى بالا لاعتبارات وأولويات الوطنية الجامعة ، ولا لمعانى الاستشهاد فى سبيل تحرير الأوطان ، ويتنطع فى فهم الدين التوحيدى الخاتم ، ويجعل من المتنطعين صنوا للمحتلين ، يقتل أبناء وبنات الأمة بالسبى وقطع الرءوس ، ومن دون أن يطلق رصاصة على المحتلين ، وهو ما تنكره الفطرة النقية لشعوب الأمة وللشعب الفلسطينى ، التى رأت فى “شيرين” كما سابقاتها ولاحقاتها ، شهيدة للأمة والوطن والحق ، ومن غير تنطع يتألى على الله وسلطانه ، وعلى مصائر الجنة والنار التى يعلمها الله وحده ، ولم يكن من شئ أشنع وأفظع من جرائم الاحتلال ، سوى جرائم المتنطعين المريبين الفاسدين عقلا وروحا وعملا ، وهم نتاج دمار شامل أصاب العقل والروح والحس الإنسانى ، وقبل عقود الانهيار العام ، كان سماع شئ من ذلك يدخل فى مقام الشذوذ
ويبقى أن ذكرى النكبة الرابعة والسبعين هذه المرة ، قد ارتبطت برمزية استشهاد “شيرين أبو عاقلة” بالذات ، فالشعب الفلسطينى يستعيد وحدته العضوية الوطنية ، ويتحدى الخذلان الخارجى ونوازع الفرقة الجغرافية والسياسية ، ويثبت بأكثر الصور سطوعا ، أن بوسع الفلسطينيين وحدهم رد الاعتبار لقضيتهم العادلة ، التى تكتسب تأييدا شعبيا عالميا متزايدا ، وبأكثر من أى وقت مضى فى العقود الخمسة الأخيرة ، فقد صار عدد الفلسطينيين وحدهم أكبر من عدد اليهود فى العالم كله ، عددهم اليوم 14 مليونا ، نصفهم على أرض فلسطين التاريخية ، وبحضور راسخ يتفوق بإطراد على عدد اليهود الصهاينة المجلوبين للاستيطان ، وهذا فيما نظن ، هو الجذر الثابت للتحول الجارى اليوم فى الأراضى المقدسة المحتلة ، وليس له من مصير على مدى عقدين مقبلين ، إلا أن تنتهى “إسرائيل” التى نعرفها ، وأن تبزغ شمس فلسطين التى نريدها .