لواء دكتور/ سمير فرج
لا أدري ما السبب في استرجاعي، الدائم، لذكريات الطفولة، ربما لأني أعتبرها أهم مراحل حياتي، التي عشتها بكل معانيها وتفاصيلها، فشكلت وجداني، في حين رسمت مرحلة الشباب ملامح شخصيتي، تلك المرحلة التي بدأتها بالالتحاق بالكلية الحربية في عمر 15 عام، وتخرجت ضابطاً وعمري 17 عام وبضعة أشهر، لأنضم، فوراً، لحرب اليمن، لمدة ثلاث سنوات، قبل العودة للوطن، في حرب 67، وبعدها، لمدة ست سنوات، خلال حرب الاستنزاف، على الخط الأول، في الدفاعات المصرية، يفصلنا عن العدو 200 متر، هي عرض قناة السويس، حتى تحقيق النصر في أكتوبر 73.
وبعد كل ذكريات الشباب الدائرة حول الحروب والمعارك، أجده من البديهي أن أعود، دائماً، بذاكرتي لتفاصيل الطفولة، خاصة تلك المرتبطة بالأعياد، فأتذكر ليلة العيد، واستعداداتي لاستقباله بالملابس الجديدة، التي اشتريتها، ككل عام، مع والدتي، رحمها الله، فأرصها، في تلك الليلة، على الكنبة، في مدخل الشقة، قبل أن استحم، وأهرول للنوم، لتنقضي الليلة، ويهل العيد. وفي يوم العيد نستيقظ مبكراً على صوت التكبيرات، من جامع لطفي، الذي يبعد أمتار قليلة عن منزلنا، فنرتدي ملابسنا الجديدة، التي تضم جورباً جديداً، لزوم الصلاة، وننزل بصحبة والدي، رحمه الله، نردد التكبيرات حتى نصل إلى الجامع، الذي ينقسم فيه المصلون إلى قسمين؛ يتبادلون الأدوار في رفع التكبيرات، وترديدها. وحتى يومنا هذا، كما أحرص على الاستماع لأغنية “رمضان جانا” لمحمد عبد المطلب، في استقبال الشهر الفضيل، فإن تكبيرات العيد، هي ما تشعرني بمجيئه.
وبعد الصلاة، وكعادة أهل بورسعيد، نخرج من الجامع لنجد صواني شربات الورد الأحمر، تطوف بين المصلين، ومعها صواني الكحك، فنتبادل التهاني ونأكل معاً، قبل أن تتحرك كل عائلات بورسعيد، إلى منطقة المقابر، لزيارة من فارقونا من الأحباب، والدعاء لهم، والتأكيد على أن فرحتنا تكتمل بذكراهم. فكنت أقابل هناك جميع أفراد عائلة فرج الكبيرة، المكونة من ثمانية أخوة، يصحبهم الأزواج والأبناء والأحفاد، فنسعد جميعاً باللقاء، ونتلقى “العيديات” من الأعمام، ونخرج من هناك لشراء الحلوى، وركوب الدراجات المزينة، والذهاب إلى السينما، تلك المظاهر التي اجتمع عليها جميع أبناء جيلي.
وتمر أيام الطفولة، وأصبح ضابطاً في القوات المسلحة المصرية، وأشارك في حرب 67، بذكرياتها الأليمة، لنبدأ، بعدها، التدريب على الأسلحة الجديدة، التي وصلت من الاتحاد السوفيتي، والتدريب على عبور قناة السويس والتدريب على تدمير خط بارليف، لتحرير سيناء. ولما كان عبور الموانع المائية، شكلاً جديداً من أشكال القتال، بالنسبة للقوات المسلحة المصرية، فقد كان التدريب، على العبور، يتم في الرياح البحيري، بنهر النيل، فنعبره بالقوارب المطاطية، وعلى الجانب المقابل من النيل، نهاجم نموذج دفاعات خط بارليف، ثم نندفع إلى العمق، لصد الهجوم المضاد لدبابات العدو الإسرائيلي.
كان الفريق أول محمد فوزي، رحمه الله، وزير الحربية، آنذاك، لا يعرف الليل من النهار، فقد كان هدفنا تحرير الأرض، واستعادة سيناء، وكان أول تدريب لنا على العبور في منطقة “البعالوه”، وتصادف أيامها أن التدريب على العبور، وتدمير العدو، كان في ليلة العيد، وكنا، حينئذ، نتدرب على العبور مع أول ضوء، وفقاً لأسلوب القتال الروسي، قبل أن يخطط لنا المخطط المصري العقيد صلاح فهمي نحلة، رحمه الله، أن يكون هجومنا وعبورنا في تمام الساعة الثانية من ظهر يوم السادس من أكتوبر لعام 73.
بدأنا تدريبات العبور، حينئذ، على ضفاف أحد فروع نهر النيل، مستخدمين القوارب المطاطية للعبور، وتدريب الجنود على استخدام سترات النجاة، والتعرف على موقع كل منا داخل القارب؛ الرشاش في مقدمته، والجنود على أجنابه، وأنا في مؤخرة القارب، ثم لطخنا وجوهنا بالطين، كنوع من أنواع التمويه … تزامن كل ذلك مع ليلة العيد. ومع بزوغ أول ضوء من صباح يوم العيد، اندفعنا بالقوارب نحو المياه، لنعبر إلى ضفة النهر المقابلة، ونقتحم نموذج خط بارليف.
تخليت يومها عن كل ما اعتدت عليه، وأنا صغير؛ فاستبدلت ملابس العيد الجديدة، بسترة النجاة، وبدلاً من “حمام العيد”، فقد لطخت وجهي بالطين، ولكنني لم أتخل عن التكبيرات، فلازلت أحمل في جيبي الراديو الصغير، لأسمع تكبيرات العيد، وسمعت أول تكبيرة، “الله أكبر كبيراً”، في نفس اللحظة التي كنا نهاجم فيها “نموذج خط بارليف”، المجهز للتدريبات على ضفة نهر النيل، وأنا أنادي في جنودي “أهجم للأمام”، لنقتحم خندق العدو، وواصلنا التقدم، وأمرت جنودي بالرقود أرضاً، استعداداً لصد هجوم “القوات المعادية”، والتففت حولي، فرأيت الفريق محمد فوزي، وزير الحربية، يركب سيارته الروسية الصنع، وبجانبه أحد الخبراء الروس، يتفقد موقع التدريبات، وكيفية عبورنا المانع المائي، ومعه قائد الكتيبة، وقال لنا أن عيدنا الحقيقي هو يوم تحرير الأرض.
وغادر الفريق فوزي الموقع، بينما تكبيرات العيد لاتزال تنطلق من الراديو الصغير في جيبي … ومرت الأيام وجاء السادس من أكتوبر، الموافق العاشر من رمضان، لنعبر قناة السويس، وندمر خط بارليف، ونصلي العيد فوق رمال سيناء، ونستمتع بصوت التكبيرات تنطلق من جميع مآذنها بعدما تحقق لنا النصر المبين. وتذكرت كلمة الفرق فوزي رحمه الله ان الاحتفال بالعيد سيكون فوق رمال سيناء، وصدق إيمانه، فكان العيد عيدين.
Email: sfarag.media@outlook.com
1