قتل مع سبق الإصرار!

بين الحين والآخر تطل علينا أخبار حوادث الهجرة غير الشرعية، والتي يكثر الإقبال عليها في محافظات الشرقية والدقهلية والقليوبية والمنوفية والغربية والبحيرة وكفر الشيخ في الوجه البحري، والفيوم وأسيوط والأقصر في الوجه القبلي.

سماسرة يتاجرون بأرواح الشباب، وشباب متعطش للثراء السريع، وأهالٍ يرضخون لرغبات أبنائهم أو طامعون وطامحون لاستثمار أموالهم من خلال عمل أبنائهم بالخارج، والذي غالبًا ما يستدينون من أجله أو يبيعون عقارًا أو أرضًا، وفي النهاية يخسرون كل شيء.. الأبناء والمال.

بحسبة بسيطة جدًا، يدفع الشاب حوالي 250 ألف جنيه، وهناك أسر تدفع بأكثر من شاب من أبنائها، يضاف إلى ذلك ابن العم والخال، وأحيانًا الخالة. هذه العائلة توفر ما يقارب المليون جنيه، وهو رقم عظيم إذا فكروا في الشراكة معًا لعمل مشروع ولو بسيط.

ولدينا نماذج كثيرة لشباب وشابات بدأن بمشروعات صغيرة في الشارع، مثل عربة مشروبات أو مأكولات، وكبروا وصار لديهم مشروع ناجح يدر عليهم دخلًا يعينهم على الحياة.

هناك من يقول إن أصحاب المشروعات التي كبرت في سنوات قليلة كان لديهم وفرة من المال، وارد، فالبعض من هؤلاء لم تكن أموالهم الكثيرة مصدرها قانونيًا، وكان وراءها شبهة غسيل أموال أو تجارة غير مشروعة.

أما ما أقترحه فبداية مقبولة ومعقولة لمشروع جماعي أو فردي، ولنا في أصحاب عربات الفول المنتشرة في شوارع مصر، بأحيائها الغنية والفقيرة، مثال أراه بعيني كل يوم، وأدلل على ذلك بمنطقة المنيل التي أقطنها؛ إذ لدينا حوالي عشر عربات فول، كلهم من الشباب، أعمارهم تبدأ من 20 عامًا إلى 45، يعملون من السادسة صباحًا وحتى العاشرة قبل الظهر.

ولأن المصريين يعشقون الفول والطعمية ويعتبرونها الوجبة الرئيسية التي تعينهم على العمل والتركيز طوال اليوم، يرتاد هذه العربات تقريبًا كل المستويات الاجتماعية، من صحفيين إلى محامين إلى موظفين إلى طلاب إلى عمال، وأحيانًا أرى فتيات وسيدات يبتعن ساندوتشات صباحًا من هذه العربات.

هذا مثال من كثير من الأمثلة التي يمكن لشبابنا أن يعملوا ويجتهدوا ويكبروا رويدًا رويدًا، بدلًا من الدفع بهم إلى الموت، إضافة إلى أن وجهتهم في هذه المغامرة تكون لبلاد رافضة لوجودهم، أو يتم استغلالهم في أعمال غير مشروعة.

القضية تحتاج إلى توعية من كثير من الجهات، على رأسها وسائل الإعلام؛ فليس كافيًا أن أناقش الموضوع كلما وقعت كارثة، بل شرف الميثاق الإعلامي يتطلب أن أطرحها للمناقشة بشرط الاستمرارية، وتقديم نماذج لشباب فشل في الهجرة وعاد، أو أسر فقدت أبناءها يتحدثون عن أوجاعهم وندمهم، وإن كان هناك البعض منهم يدفع بالابن تلو الآخر في مشهد ليس له تفسير سوى الطمع.

وأيضًا أهالٍ لديهم قناعة بفكرة السفر غير الشرعي، مطلوب التحاور معهم؛ لأنهم في نظري قتلة مع سبق الإصرار، مدانون يقعون تحت طائلة القانون، مثلهم مثل من يجري لابنته الختان أو يزوجها قسريًا، وهؤلاء بحاجة إلى الوعي؛ فالبداية تكون من هنا. وكما نقول إن الوقاية خير من العلاج، لا بد وأن نعي أن الوعي طوق النجاة.

أمر آخر هام، وهو ضرورة انتشار هيئة المشروعات الصغيرة ومتناهية الصغر في قرى المحافظات التي تمثل النسبة الكبيرة من الهجرة غير الشرعية، وتقديم خدماتها وأفكار لمشروعات تخدم البيئة، وتسهيلها على الشباب لفتح أبواب عمل يحقق لهم الاستقرار والكسب المشروع، بدلًا من ضياع الأرواح والأموال.

وقتها لن يفكروا في المغامرة بأرواحهم، ولدينا شباب طموح لديه الفكر والمثابرة، فقط يحتاجون لمن يمد لهم يد العون.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لكل من يلقي بزهرات شبابنا إلى موت محقق، اللهم بلغت اللهم فاشهد.