بقلم الإعلامي والكاتب / إبراهيم الصياد
وكيل وزارة الإعلام ورئيس قطاع الأخبار الأسبق
قبل 69 عاما شكل الرئيس جمال عبد الناصر هاجسا أقلق مضاجع الغرب ولم تكن رؤية زعماء أوروبا لعبد الناصر خاصة في عام 1956 مشحونة بالعداء والقلق الشديدين فقط بل بلغت ذروتها في العدوان الثلاثي على مصر من أكتوبر حتى ديسمبر من ذلك العام.
وتركزت وجهات النظر الأوروبية آنذاك وبوجه خاص موقفا ( بريطانيا وفرنسا) في هذا الشاب المصري كالاتي :
المملكة المتحدة – تحت قيادة رئيس الوزراء أنتوني إيدن – اعتبرت عبد الناصر عدوا شبيها لزعيم النازية ادولف هتلر حيث رأى إيدن في تأميم قناة السويس (26 يوليو 1956) عملًا عدائيًا لبلاده يهدد المصالح الحيوية البريطانية بسبب قيام المصريين باسترداد مرفق القناة التي تعتبر (الطريق البحري الاستراتيجي بين الشرق، والغرب ومعبر إمدادات النفط إلى أوروبا ).
وقد خشيت بريطانيا من أن المد القومي المعادي لمنهج السياسة الاستعمارية الذي قاده عبد الناصر سوف يفتح الباب على مصراعيه أمام توسع النفوذ السوفيتي في منطقة الشرق الأوسط، ما سيؤدي إلى تقويض الاستقرار و الموالاة للغرب في المنطقة.
وهذا يعني أن التأميم جاء بمثابة ضربة قاصمة لهيبة بريطانيا العظمى التي كانت الإمبراطورية الاستعمارية التي لا تغرب عنها الشمس !
ورأى إيدن أن التراجع أمام عبد الناصر سيشجع شعوبا زعماء آخرين في المستعمرات والدول التي استقلت على تحدي المصالح البريطانية.
وعندما سئل إيدن ماذا تريد من هذه السياسة ؟ قال هدفي الإطاحة بعبد الناصر أو على الأقل إجباره على التراجع وإعادة السيطرة الدولية على قناة السويس اي عودة الشركة التي كانت تدير القناة منذ افتتاحها عام 1869 في عهد الخديوي اسماعيل!
أما فرنسا – تحت قيادة رئيس الوزراء جي موليه – ترى أن مصر عبد الناصر تعتبر ظهيرا للثورة الجزائرية التي جعلت الحكومة الفرنسية تخوض حرباً مريرة لإخماد ثورة الحزائر التي بدأت عام 1954 بعد عام واحد نجاح الثورة المصرية.
وقررت فرنسا أن عبد الناصر داعما رئيسيا للثوار الجزائريين المتحمسين لفكره القومي المكتسح من المحيط الى الخليج ولم يكن دعم الثورة في الجزائر بالسلاح فقط بل لعب الإعلام المصري باعتباره قوة ناعمة دورا مهما في إسناد الثورة حيث ألهبت إذاعه “صوت العرب” المشاعر المعادية لفرنسا.
واعتبرت فرنسا عبد الناصر رمزًا لثورة قومية عربية معادية للاستعمار تهدد مصالحها المتبقية في شمال إفريقيا والشرق الأوسط واقلقها الخوف من تصدير الثورة وهذه نقطة اتفاق مع موقف نظيره الانجليزي غير أن جي موليه لم يكن دبلوماسيا مثل أيدن وأعلن بصراحة أن هدف فرنسا تدمير قوة عبد الناصر السياسية والعسكرية لأن تصفية هذا الرجل ستكون ضربة لروح المقاومة الجزائرية، بالإضافة الى أن التخلص منه سيمكن فرنسا والدول الأوروبية من استعادة شركة القناة التي كان الفرنسيون يسيطرون على إدارتها منذ افتتاحها !
وحتى تكتمل صورة العداء لعبد الناصر من الضروري كان لابد أن نلقي الضوء على موقف الضلع الثالث في مثلث مؤامرة العدوان اسرائيل تحت قيادة دافيد بن جوريون الذي التقى مع إيدن و موليه على أن عبد الناصر العدو العربي الأكثر خطورة، بعد أن فرض حصارا على خليج العقبة، ودعم الفدائيين، وتحدث علنًا عن تدمير إسرائيل !
وطرح بن جوريون مخططا يستهدف استغلال التوتر الدولي بعد تأميم مصر لقناة السويس وتوجيه ضربة عسكرية استباقية مركزة ضعف الجيش المصري وتوسع حدود إسرائيل في اتجاه الغرب عن طريق احتلال شبه جزيرة سيناء!
وهكذا اتفق المتآمرون الثلاثة على إنشاء تحالف و خططوا لشن عدوان
على مصر خلال شهري (أكتوبر و نوفمبر من عام 1956)
واعتمدت الخطة في اجتماع سري عقد في مدينة سيفر Sèvres الفرنسية في (أكتوبر 1956)، حيث اتفقت بريطانيا وفرنسا وإسرائيل على تنفيذ المخطط على النحو التالي :
تهاجم إسرائيل سيناء
بعده توجه بريطانيا وفرنسا إنذارًا لمصر واسرائيل بوقف القتال
تطلبان أيضا من مصر “احتلال” منطقة قناة السويس تحت ذريعة فصل المتحاربين
وذلك تستوليان عليها و تضغطان على عبد الناصر أما للاستسلام أو السقوط.
وسار العدوان وفق الخطة الزمنية اعتبارا من 29 اكتوبر وحقق أطراف العدوان الثلاثي نجاحا عسكريا محدودا الا أنهم واجهوا فشلا كبيرا على المستوى الاستراتيجي بمعنى أن العدوان فشل سياسيًا ودبلوماسيًا بشكل ذريع للأسباب التالية :
معارضة الولايات المتحدة تحت قيادة (الرئيس أيزنهاور) للهجوم على مصر واتضح أن أطراف العدوان تجاهلوا الإدارة الأمريكية ولم يتم استشارتها حيث أن واشنطن كانت قلقة من دفع العالم العربي إلى أحضان الاتحاد السوفيتي ورأت أن الحرب في الشرق الأوسط ستؤدي إلى استعداء موسكو التي أعلنت وقوفها الكامل إلى جانب مصر !
ولم يقف الأمر عند هذا الحد فقد أدانت الأمم المتحدة العدوان الثلاثي ويمكن القول إن السقوط المدوي لبريطانيا وفرنسا كان هناك سبب رئيسي له وهو :
المقاومة الشعبية في بورسعيد تلك المدينة أذهل صمودها العالم عندما وقف المصريون في وجه العدوان ثم الاحتلال الذي استمر نحو 53 يوما وبناء عليه كان هناك رفض إقليمي ودولي واسع النطاق لاحتلال مدينة بورسعيد!
أما مواقف الدول الأخرى مثل ألمانيا الغربية، وإيطاليا، واليونان وتركيا كانت أكثر حذرًا من التورط في أي عمل عسكري وخاصة بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية ومن ثم مثل لها التصعيد في الشرق الأوسط قلقا جعلها ترفض المشاركة في العدوان على مصر !
وحدث تغير نوعي في السياسة الأوروبية حيث رأت بعض الدوائر الأوروبية في عبد الناصر قوة لا يمكن تجاهلها، وأن الحل يجب أن يكون سياسيًا !
وبالفعل في 23 ديسمبر انسحبت من القوات المعتدية من بورسعيد وحدث انقلاب شامل للرؤية الأوروبية بعد فشل العدوان.
وهكذا حقق جمال عبد الناصر نصرا سياسيا كبيرا و خرج من الأزمة أقوى بكثير مما كان عليه. وتحول من زعيم يواجه أزمة إقليمية إلى بطل قومي عربي وأيقونة لمناهضة الاستعمار على مستوى العالم خاصة في افريقيا وآسيا وامريكا اللاتينية وعجز العدوان عن إسقاط عبد الناصر ، وأصبحت قناة السويس تحت السيطرة الكاملة للحكومة المصرية !
كانت حرب بورسعيد المعروفة في أدبيات العلوم السياسية بأزمة السويس إعلانًا بنهاية القوى الاستعمارية العظمى في العالم وتراجع دور بريطانيا وفرنسا وأظهرت الأزمة هيمنة القوتين الجديدتين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي على النظام الدولي وانتقل إلى مايعرف بالحرب الباردة !
بعد انتهاء الأزمة تغيرت النظرة الأوروبية لمصر واضطرت الدبلوماسية الغربية (خاصة البريطانية) إلى التعامل مع عبد الناصر باعتباره واقعا وحقيقة لا يمكن محوها، وتبنت سياسات أكثر واقعية، وإن ظلت مرتابة منه!
وبعد استقلال الجزائر وانتهاح الرئيس شارل ديجول سياسة مرنة سارت فرنسا في اتجاه التقارب مع مصر والعالم العربي حتى وفاة جمال عبد الناصر في 28 سبتمبر عام 1970!
خلاصة القول في عام 1956، حولت حرب السويس جمال عبد الناصر من خصم عنيد إلى أسطورة، أكدت فشل النهج التآمري المباشر في وقف صعود الفكر القومي العربي الذي تبناه عبد الناصر وكان هذا أحد اسباب التخطيط للجولة العربية الإسرائيلية الثالثة في عام 1967 وهذا له حديث آخر !
